لِمَ عُرِّفت (السفينة) في سورة الكهف ، ونُكِّر (الغلام) ، و(القرية) ؟
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
لِمَ عُرِّفت (السفينة) في سورة الكهف ، ونُكِّر (الغلام) ، و(القرية) ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
قالَ تعالى : فانطلقا حتى إذا ركِبا في السفينة خرقَها قال أخرقتَها لتغرقَ أهلَها [ آية 71 ] ؛ فعرَّفَ « السفينة » .
وقالَ : حتى إذا لقيَا غلامًا فقتلَه [ آية 74 ] ، وقالَ : حتى إذا أتيَا أهل قريةٍ استطعما أهلَها [ آية 77 ] ؛
فنكَّرَ « الغلام » ، و « القرية » .
فكيف فرَّقَ بين هذه الثلاثةِ ؟ وكيف عرَّف « السفينة » ولم يتقدَّم لها ذكرٌ ؟
ينبغي أن نعلمَ أولُ أنَّ التعريفَ ، والتنكيرَ مبحثٌ نحويٌّ متصِلٌ بعلم المعاني ، من قِبَل دورانِ الكلمةِ بينَ هاتين الحقيقتينِ
دورانًا ربَّما أشكلَ الفصلُ فيه على المتكلِّم غيرِ البصيرِ بمواقعِ الكلام ، ووجوهِ الخِطابِ ، ودقائقِ الأحوالِ .
ينبيك بهذا قولُ امرئ القيس بن حُجْرٍ :
مِسحٍّ إذا ما السابحات على الونَى *** أثرن الغبار بالكَديد المركَّلِ
فقد روى جمهور الرُّواة : ( الغبار ) ، وروى الأصمعيُّ : ( غُبارًا ) .
وقولُه :
فعنَّ لنا سِربٌ كأنَّ نِعاجَه *** عذارى دوار في مُلاءٍ مذيَّلِ
فقد روى جمهور الرواة : ( ملاءٍ ) ، وروى الأصمعيُّ : ( الملاءِ ) .
ولا شكَّ أيضًا أنك ترى مقدارَ الاختلافِ بينَ نُقَّاد القصائدِ ؛ فمنهم من يدَّعي أن التنكير في موضعٍ مَّا للتحقيرِ .
ومنهم من يقولُ : هو للتعظيمِ . ومنهم من يقول : هو لا يفيدُ هذا ، ولا ذاك .
ثم لا تجدُهم يُبدونَ لك عن معيارٍ منصوبٍ تستطيعُ أن تحتكم إليه ، وترضَى بقضائه .
من أجل ذلك كانَ معرفةُ الفصلِ فيه من آياتِ البلاغةِ التي لا يُهدَى إليها إلا مَن راضَ نفسَه بمحاسنِ الكلامِ ،
وعوَّدَها طُرُقَ الإصابةِ ، وأوتيَ من الذوقِ ، ولُطفِ الحِسِّ ما استغنى بهِ عن الأصولِ الموضوعةِ ، والقواعدِ المستحدَثةِ .
فأمَّا الذي لا يَزال بحاجةٍ إلى أصولٍ يضبطُها تكونُ له مرجعًا في ما يعرِضُ لهُ من المسائلِ ، فنذكرُ له إن شاء الله حقيقةَ
هذا البابِ بما نرى فيه القصدَ والسَّدادَ ، ونبيِّن علاقتَه بالبلاغةِ ، ثم نلتفِت إلى الآية الكريمة ، فبيتي امرئ القيس المتقدِّمين .
الأصلُ في الكَلِم هو التَّنكيرُ ؛ وذلك أنَّ الألفاظَ الموضوعةَ لتكونَ دلائلَ على الأشياءِ إنما وُضِعت لتكونَ شامِلةً لكلِّ فردٍ
من أفرادِ الجنسِ ما توفَّرت فيهِ حقائقُ معيَّنةٌ لا تقومُ ماهيَّتُه إلا بها ؛ فإذا قلتَ كتاب )، دخلَ في هذا كلُّ ما كانَ مؤتلِفًا
من أوراقٍ على نحوٍ معلومٍ ، ولم يستبن فردٌ منها عن فردٍ ؛ فاحتاجت العربُ إلى الفصلِ بينها ، وتمييز بعضها من بعضٍ ،
فلجأت إلى طرائقَ مختلِفةٍ ؛ كلُّها يجمعُها اسمُ التعريفِ ؛ منها التعريف بـ « أل » ؛ فألحقتها أوائلَ الكلِمِ لتَدلَّ على أنَّ
هذا الشيءَ معروفٌ عندك أيُّها المخاطبُ ، وأن لك به سابقَ علمٍ ، وأنه ليس كسائرِ الأفرادِ . والسبيلُ إلى معرفةِ هذا الفرْد
المعرَّفِ أن يَّكونَ أوَّلاً مشارًا إليهِ ، كما لو قالَ لك قائِلٌ : ( اقرأ الكتاب ) ، وأعطاكه بيدِه ؛ فهو معرِفةٌ عندَك بالحالِ .
فإن عِدمتَ هذا ، ففتِّش عن الكلمةِ المعرَّفةِ في ما مضى من الكلامِ ؛ فإذا وجدتَّها سبقت ، فهي المراد تعيينُها .
ومن ذلك قوله تعالى : كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً * فعصى فرعون الرسولَ ؛ فإنَّ قولَه : الرسول
مقتضاه أنَّه معروفٌ لديكَ ؛ فلمَّا عدِمتَ دَِلالة الحالِ، انتقلتَ إلى الكلامِ . فإذا عدِمتَ دَِلالة الكلامِ ،
ولم تجِد لها ذكرًا سابقًا ، انتقلتَ إلى دَِلالة العهدِ ؛ فقد يكونُ بينَك وبينَ المتكلِّم عهدٌ فيها ،كما لو قال لك :
( قد وجدتُّ الرجلَ ) يريد رجلاً قد حدَّثك عنه من قبلُ .
فإذا وجدتَّ المخاطبَ عرَّف لك الكلمةَ ، ولا حالَ تشيرُ إليها ، ولا كلامَ تقدَّمها ،ولا عهدَ بينك وبينه فيها ،
فاعلمْ أنَّه أرادَ تعريفَ فردٍ غيرِ معيَّنٍ ؛ وهو ما يسمّونه تعريفَ الجنسِ .ولا يكون إلا مجازًا . ويأتي الحديث عنه مفصَّلاً.
فـ « أل » إذن لا تفارقُ التعريفَ في أصل وضعها . ولا يصِحُّ تقسيمُها إلى جنسيَّةٍ ، وعهديَّةٍ ، ثم تقسيمُ الجنسيَّة إلى دالَّة
على الحقيقة، ودالَّة على الاستغراقِ ، ثم تقسيمُ العهديَّة إلى ذكريَّة ، وعلميَّة ، وحضوريَّةٍ ؛ بل كلُّها للتعريفِ ،
وحقيقتُها واحدةٌ لا تختلِف ؛ وإنما الاختلافُ بينَها في المراجِع التي يرجِع إليها التعريفُ وحسبُ . وهي في هذا تُشبِه الضمير؛
فكما أنَّ رجوعَه قد يكون إلى اسم يتقدَّمه، وقد يكون إلى المفهوم من فعلٍ سابقٍ له ، وقد يكون إلى ما لا ذكرَ له في الكلامِ،
وهو مع ذلكَ لم يُقسَّم من هذا الوجه ،فكذلك المعرَّف بـ «أل».
فأمَّاما استحَقَّ التعريفَ من الكَلِم ، فلا يجوز تنكيرُه بحالٍ ولو مجازًا ؛وإنما تنكِّرُه العربُ باسم الإشارةِ مع التعريفِ بأل ؛
فأمَّاالتعريفُ بأل ، فللتمييز من سائر الأفراد . وأما الإشارة ، فلبيانِأنَّهنكِرةٌ حتى معَ تعريفِه ؛ فهو يحتاج إلى تعريفٍ آخَرَ .
وأمَّا ما استحقَّ التنكيرَ ممَّا لا يُراد بهِ فردٌ معيَّنٌ ، فلا يُعرَّف إلا لغرضٍ بلاغيٍّ كما سيأتي .
واعلمْ أنه لا يمكن أن يأتيَ التنكيرُ لغرضٍ بلاغيٍّ البتةَ ، لأن التنكيرَ هو الأصلُ ، وهو الذي اقتضاهُ المعنَى .
ومن شرط صحَّة العلَّة أن يتعلَّق الحُكْم بها وجودًا وعدمًا . وهذه لو أبطلنا العلَّة فيها ؛ وهي إرادة الغرضِ البلاغيّ ،
لما زالَ الحُكْم ؛ وهو التنكيرُ .وهذا الذي ذكرتُ من أحكام التعريف بـ « أل » إنما هو نبذة مختصرة مهَّدتُّ بها لما بعدَها.
ونأتي الآنَ إلى الآية الكريمةِ ؛ فننظر لِمَ عُرِّفت ( السفينة ) دونَ ( الغلام ) ، و ( القرية ) ؟
ليس في هذه الآية دليلُ حالٍ ، ولم يجرِ للسفينة ذِكر ؛ فيعودَ التعريف إليها ؛ فيبقَى إذن احتمالانِ :
الأول : أن يقال : إنَّ في قوله تعالى قبلُ : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا*
فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهمافاتخذ سبيله في البحر سرَبًا [ آية 60 ، 61 ] ما يُشبِه الذكر للسفينةِ ؛ ذلكَ أنَّه
ذكرَ أن موسى بلغَ البحرَ . وهذا يجعلُ السامعَ كالمنتظرِ لذكر ما يحملُهم في البحرِ ؛ وهو السفينةُ ؛ فعلى هذا يكون
مرجِعُ « أل » مفهومًا من ذِكْر غيرِهِ ؛ فلذلك عرَّفَها . أما الغلام ، والقرية ، فلم يتقدَّم قبلَهما ما يؤذِن بذكرِهما.
الثاني : ألا يكونَ ثمَّةَ مرجِعٌ لـ « أل » ؛ فيكون تعريفُها تعريفًا لفردٍ منها غيرِ معلومٍ لدى السَّامعِ من طريقِ المجازِ
( استعارة مكنيَّة ) ؛ كأنَّه يخبِرُك أنَّ هذا الشيءَ معروفٌ لديك ، ويدعوك إلى تذكُّر صفاتِه ؛ كأنَّه قالَ :
( أرأيت هذا الشيءَ المعروفَ بعظمتِه ، وبحملِه الأثقالَ ، والبشرَ ، فإنَّ الخضِر خرقَه ). وذلك كثيرٌ في مقامات التهويل،
أو التعظيم . وإنما ذلك ليبيِّن عِظم ما فعلَه من خرقِها في عين موسى . وآية ذلك أنه قال بعدُ : لقد جئت شيئًا إمرًا ؛
و( الإمر ) أشدُّ من ( النُّكر ) ؛ ولهذا عرَّف ( السفينة ) ولم يعرِّف ( الغلام ) ؛ إذْ كان خرْق السفينة سببًا لهلاكِ نفوسٍ كثيرةٍ ،
وقتلُ الغلام إنما هو هلاكُ نفسٍ واحدةٍ . هذا مع كونِ أصحابِ السفينة محسنينَ بحملِهم فيها بغير أجرٍ كما قيلََ
وكونِهم مساكينَ أيضًا كما ذكرَ الله تعالى بعدُ .
وزعمَ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أنَّ لامَ ( السفينة ) للعهد الذهنيِّ [ التحرير والتنوير 6 / 375 ]،
ومثَّل لها بـ «وأخاف أن يَّأكله الذئب»، وذكرَ في هذه الآية الأخيرة آيةِ يوسفَ أنَّها لتعريف الجنسِ [ السابق 5 / 231 ]؛
فإن كان يريدُ بلام ( السفينة ) العهدَ الذهنيَّ كما قال في موضعها، فإما أن يَّكون قصدُه بالعهدِ الذهنيِّ أن يكونَ بين المتكلِّم
والمخاطَب عهدٌ فيه ؛ فيكونُ الشيخُ لم يبيِّن في لامِ السفينة كيفَ هذا العهدُ أوَّلاً ، ويكونُ هذا المعنى ثانيًا
غيرَ صالحٍ إجراؤُه في آية يوسفَ ، لأنه لا يمكِن أن تحمَل على العهْد ، ويكون قد ناقضَ كلامَه ثالثًا ،
لأنَّ لامَ الجنس أو الحقيقة غير لامِ العهدِ . وإن كان قصدُه بالعهد الذهنيِّ أن يكونَ المتكلِّم يريدُ بهِ فردًا مبهمً
من أفراد الحقيقة من حيث عهدُه إيَّاه في ذهنِه ، فهذا أوَّلاً معنًى لا يصِحّ ، لأنَّه حين إذٍ ليس معرفةً حقيقةً ، ولا مجازًا ،
وثانيًا لو قدَّرنا أنَّه معرفةٌ في ذهنِ المتكلِّم ، فليس بمعرفةٍ عند المخاطبِ ؛ والتعريفُ إنما هو للمخاطبِ ، لا للمتكلِّم ،
كما أنك لا تأتي إلى رجلٍ خالي الذهن ، وتقول له : اشتريتُ الكتاب ، وقرأتُه ، إذا كان لا يدري أيُّ كتابٍ هذا الكتاب .
ولا ينفعُك أن يكون معروفًا عندكَ إذا كانَ مجهولاً عندَه . ومثل هذا الضميرُ ؛ فإنَّك لا تقول لخالي الذهنِ أيضًا :
( جاء إليَّ ، فأكرمته ) إذا كان لا يعرفُ هذا الذي أضمرتَ عنه . وثالثًا يكون ناقض كلامَه السابقَ ؛
إذ جعلَ لام ( الذئب ) للجنس ؛ والجنسُ كما ذكرتُ غيرُ العهدِ . ويكون رابعًا غيرَ مزيلٍ للإشكالِ ،
ولا كاشفٍ عن وجه البلاغةِ ؛ إذ لِمَ لمْ يُعرَّف ( الغلام ) أيضًا ، و ( القرية ) بهذا القصد ؟
وإن كان يريدُ بلام ( السفينة ) الجنسَ ، فهو أولاً لم يبيِّن وجه البلاغة فيهِ ، ولا علةَ التفرقة بينه وبين ( الغلام ) ،
و ( القرية ) ، وسمَّاه بغير اسمِه ثانيًا ، ولا يصِحُّ ثالثًا أن يسمَّى تعريفًا للجنس ، لأنَّ المعرَّف إنما هو فرْد من أفرادِه .
وزعمَ الدكتور فاضل السامرائيُّ أن سبب تعريف ( السفينة ) أنَّه جاءت سفينةٌ مارّةٌ ، فناداها الخضرُ ، وموسى ،
فعرفوا الخضرَ ، فحملوهما بدون أجر [ لمسات بيانية في نصوص من التنزيل 41 ] . أما الغلام فإنهما لقياه في طريقهم ،
وليس غلامًا محددًا معروفًا . والردُّ على هذا هو ما ذكرنا آنفًا من أن مقتضى التعريفِ أن يَّكون معروفًا للمخاطبِ ،
لا للمتكلِّم .
وأمَّا بيتا امرئ القيس ، فأولهما قولُه :
مِسحٍّ إذا ما السابحات على الونَى *** أثرن الغبارَ بالكَديد المركَّلِ
وهذه هي الرِّواية الحُسنى ؛ فقد أراد أن يصِفَ سرعةَ جريِ فرسِهِ ، وأنَّه إذا كان بينَ الجِيادِ السابحاتِ ،
وقد بلغَ منهنَّ الإعياء مبلغَه ، وجعلن يُثرن الغبارَ لسرعةِ جريهنَّ ، وكرمِهنَّ ، وجدتَّ فرسَه ينصبُّ في جريه انصبابًا ،
ولا يقصِّر عنهنَّ . وكانت ( الغبار ) بالتعريفِ أحسنَ ، وأبلغَ ، لأن هذا موضِع تهويلٍ ، وتوكيدٍ ؛
كأنَّه يريدُ أن يردَّك إلى تذكُّره بحقيقتِه ؛ فكأنه يقول : إنهنَّ يُثِرن الغبارَ المعروفَ من غيرِ تجوُّزٍ .
وهذا أبلغُ في الدّلالة على سرعة جريِهنَّ ، ثم الدلالة على سرعة جريِ فرسِهِ .
وأما الآخَر ، فقولُه :
فعنَّ لنا سِربٌ كأنَّ نِعاجَه *** عذارى دوار في ملاءٍ مذيَّلِ
وهذه هي الرِّواية الحُسنَى ، وذلك أن الشاعرَ أرادَ أن يصفَ قطيعَ البقرِ الذي صادفه في صيدِه ؛
فشبَّهَه بالعذارى إذا لبِسنَ ملاءً ؛ وهو ضربٌ من اللِّباس يُلتحَف بهِ ، وكان هذا المُلاء مذيَّلاً ؛ أي سابغًا ،
في حالِ طوافهنَّ حولَ ( دَوَار ) ؛ وهو صنم من أصنامهم . وذلك أنَّ البقرَ تكون بيضَ الظُّهور ، سود القوائم ؛
وكذلك العذارى في الملاءِ المذيَّل ، وأنَّ البقرَ يلوذ بعضها ببعضٍ ؛وكذلكَ العذارى حولَ الصنمِ.
وإنما كان التنكير هنا أحسنَ ، لأنَّ المَقام ليس مَقام تعظيمٍ أو نحوِه ؛ وإنما هو وصفٌ مجرَّد لا مبالغةَ فيه ،
وليس ذِكرُ ( المُلاء ) على العذارى بالذي يدعو إلى العجبِ ، وليس تعريفُه بالذي يخدُم غرضَ الشّاعر ،
ومقاصِده في شعرِه . والبلاغة ليست كلُّها في المبالغة ، أو التهويلِ ؛ وإنما البلاغة أن تضعَ كلَّ شيءٍ موضعَه ،
وتخاطبَ كلَّ امرئٍ بما يعقلُه .
المصدر abdelbasit.net
وقالَ : حتى إذا لقيَا غلامًا فقتلَه [ آية 74 ] ، وقالَ : حتى إذا أتيَا أهل قريةٍ استطعما أهلَها [ آية 77 ] ؛
فنكَّرَ « الغلام » ، و « القرية » .
فكيف فرَّقَ بين هذه الثلاثةِ ؟ وكيف عرَّف « السفينة » ولم يتقدَّم لها ذكرٌ ؟
ينبغي أن نعلمَ أولُ أنَّ التعريفَ ، والتنكيرَ مبحثٌ نحويٌّ متصِلٌ بعلم المعاني ، من قِبَل دورانِ الكلمةِ بينَ هاتين الحقيقتينِ
دورانًا ربَّما أشكلَ الفصلُ فيه على المتكلِّم غيرِ البصيرِ بمواقعِ الكلام ، ووجوهِ الخِطابِ ، ودقائقِ الأحوالِ .
ينبيك بهذا قولُ امرئ القيس بن حُجْرٍ :
مِسحٍّ إذا ما السابحات على الونَى *** أثرن الغبار بالكَديد المركَّلِ
فقد روى جمهور الرُّواة : ( الغبار ) ، وروى الأصمعيُّ : ( غُبارًا ) .
وقولُه :
فعنَّ لنا سِربٌ كأنَّ نِعاجَه *** عذارى دوار في مُلاءٍ مذيَّلِ
فقد روى جمهور الرواة : ( ملاءٍ ) ، وروى الأصمعيُّ : ( الملاءِ ) .
ولا شكَّ أيضًا أنك ترى مقدارَ الاختلافِ بينَ نُقَّاد القصائدِ ؛ فمنهم من يدَّعي أن التنكير في موضعٍ مَّا للتحقيرِ .
ومنهم من يقولُ : هو للتعظيمِ . ومنهم من يقول : هو لا يفيدُ هذا ، ولا ذاك .
ثم لا تجدُهم يُبدونَ لك عن معيارٍ منصوبٍ تستطيعُ أن تحتكم إليه ، وترضَى بقضائه .
من أجل ذلك كانَ معرفةُ الفصلِ فيه من آياتِ البلاغةِ التي لا يُهدَى إليها إلا مَن راضَ نفسَه بمحاسنِ الكلامِ ،
وعوَّدَها طُرُقَ الإصابةِ ، وأوتيَ من الذوقِ ، ولُطفِ الحِسِّ ما استغنى بهِ عن الأصولِ الموضوعةِ ، والقواعدِ المستحدَثةِ .
فأمَّا الذي لا يَزال بحاجةٍ إلى أصولٍ يضبطُها تكونُ له مرجعًا في ما يعرِضُ لهُ من المسائلِ ، فنذكرُ له إن شاء الله حقيقةَ
هذا البابِ بما نرى فيه القصدَ والسَّدادَ ، ونبيِّن علاقتَه بالبلاغةِ ، ثم نلتفِت إلى الآية الكريمة ، فبيتي امرئ القيس المتقدِّمين .
الأصلُ في الكَلِم هو التَّنكيرُ ؛ وذلك أنَّ الألفاظَ الموضوعةَ لتكونَ دلائلَ على الأشياءِ إنما وُضِعت لتكونَ شامِلةً لكلِّ فردٍ
من أفرادِ الجنسِ ما توفَّرت فيهِ حقائقُ معيَّنةٌ لا تقومُ ماهيَّتُه إلا بها ؛ فإذا قلتَ كتاب )، دخلَ في هذا كلُّ ما كانَ مؤتلِفًا
من أوراقٍ على نحوٍ معلومٍ ، ولم يستبن فردٌ منها عن فردٍ ؛ فاحتاجت العربُ إلى الفصلِ بينها ، وتمييز بعضها من بعضٍ ،
فلجأت إلى طرائقَ مختلِفةٍ ؛ كلُّها يجمعُها اسمُ التعريفِ ؛ منها التعريف بـ « أل » ؛ فألحقتها أوائلَ الكلِمِ لتَدلَّ على أنَّ
هذا الشيءَ معروفٌ عندك أيُّها المخاطبُ ، وأن لك به سابقَ علمٍ ، وأنه ليس كسائرِ الأفرادِ . والسبيلُ إلى معرفةِ هذا الفرْد
المعرَّفِ أن يَّكونَ أوَّلاً مشارًا إليهِ ، كما لو قالَ لك قائِلٌ : ( اقرأ الكتاب ) ، وأعطاكه بيدِه ؛ فهو معرِفةٌ عندَك بالحالِ .
فإن عِدمتَ هذا ، ففتِّش عن الكلمةِ المعرَّفةِ في ما مضى من الكلامِ ؛ فإذا وجدتَّها سبقت ، فهي المراد تعيينُها .
ومن ذلك قوله تعالى : كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً * فعصى فرعون الرسولَ ؛ فإنَّ قولَه : الرسول
مقتضاه أنَّه معروفٌ لديكَ ؛ فلمَّا عدِمتَ دَِلالة الحالِ، انتقلتَ إلى الكلامِ . فإذا عدِمتَ دَِلالة الكلامِ ،
ولم تجِد لها ذكرًا سابقًا ، انتقلتَ إلى دَِلالة العهدِ ؛ فقد يكونُ بينَك وبينَ المتكلِّم عهدٌ فيها ،كما لو قال لك :
( قد وجدتُّ الرجلَ ) يريد رجلاً قد حدَّثك عنه من قبلُ .
فإذا وجدتَّ المخاطبَ عرَّف لك الكلمةَ ، ولا حالَ تشيرُ إليها ، ولا كلامَ تقدَّمها ،ولا عهدَ بينك وبينه فيها ،
فاعلمْ أنَّه أرادَ تعريفَ فردٍ غيرِ معيَّنٍ ؛ وهو ما يسمّونه تعريفَ الجنسِ .ولا يكون إلا مجازًا . ويأتي الحديث عنه مفصَّلاً.
فـ « أل » إذن لا تفارقُ التعريفَ في أصل وضعها . ولا يصِحُّ تقسيمُها إلى جنسيَّةٍ ، وعهديَّةٍ ، ثم تقسيمُ الجنسيَّة إلى دالَّة
على الحقيقة، ودالَّة على الاستغراقِ ، ثم تقسيمُ العهديَّة إلى ذكريَّة ، وعلميَّة ، وحضوريَّةٍ ؛ بل كلُّها للتعريفِ ،
وحقيقتُها واحدةٌ لا تختلِف ؛ وإنما الاختلافُ بينَها في المراجِع التي يرجِع إليها التعريفُ وحسبُ . وهي في هذا تُشبِه الضمير؛
فكما أنَّ رجوعَه قد يكون إلى اسم يتقدَّمه، وقد يكون إلى المفهوم من فعلٍ سابقٍ له ، وقد يكون إلى ما لا ذكرَ له في الكلامِ،
وهو مع ذلكَ لم يُقسَّم من هذا الوجه ،فكذلك المعرَّف بـ «أل».
فأمَّاما استحَقَّ التعريفَ من الكَلِم ، فلا يجوز تنكيرُه بحالٍ ولو مجازًا ؛وإنما تنكِّرُه العربُ باسم الإشارةِ مع التعريفِ بأل ؛
فأمَّاالتعريفُ بأل ، فللتمييز من سائر الأفراد . وأما الإشارة ، فلبيانِأنَّهنكِرةٌ حتى معَ تعريفِه ؛ فهو يحتاج إلى تعريفٍ آخَرَ .
وأمَّا ما استحقَّ التنكيرَ ممَّا لا يُراد بهِ فردٌ معيَّنٌ ، فلا يُعرَّف إلا لغرضٍ بلاغيٍّ كما سيأتي .
واعلمْ أنه لا يمكن أن يأتيَ التنكيرُ لغرضٍ بلاغيٍّ البتةَ ، لأن التنكيرَ هو الأصلُ ، وهو الذي اقتضاهُ المعنَى .
ومن شرط صحَّة العلَّة أن يتعلَّق الحُكْم بها وجودًا وعدمًا . وهذه لو أبطلنا العلَّة فيها ؛ وهي إرادة الغرضِ البلاغيّ ،
لما زالَ الحُكْم ؛ وهو التنكيرُ .وهذا الذي ذكرتُ من أحكام التعريف بـ « أل » إنما هو نبذة مختصرة مهَّدتُّ بها لما بعدَها.
ونأتي الآنَ إلى الآية الكريمةِ ؛ فننظر لِمَ عُرِّفت ( السفينة ) دونَ ( الغلام ) ، و ( القرية ) ؟
ليس في هذه الآية دليلُ حالٍ ، ولم يجرِ للسفينة ذِكر ؛ فيعودَ التعريف إليها ؛ فيبقَى إذن احتمالانِ :
الأول : أن يقال : إنَّ في قوله تعالى قبلُ : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا*
فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهمافاتخذ سبيله في البحر سرَبًا [ آية 60 ، 61 ] ما يُشبِه الذكر للسفينةِ ؛ ذلكَ أنَّه
ذكرَ أن موسى بلغَ البحرَ . وهذا يجعلُ السامعَ كالمنتظرِ لذكر ما يحملُهم في البحرِ ؛ وهو السفينةُ ؛ فعلى هذا يكون
مرجِعُ « أل » مفهومًا من ذِكْر غيرِهِ ؛ فلذلك عرَّفَها . أما الغلام ، والقرية ، فلم يتقدَّم قبلَهما ما يؤذِن بذكرِهما.
الثاني : ألا يكونَ ثمَّةَ مرجِعٌ لـ « أل » ؛ فيكون تعريفُها تعريفًا لفردٍ منها غيرِ معلومٍ لدى السَّامعِ من طريقِ المجازِ
( استعارة مكنيَّة ) ؛ كأنَّه يخبِرُك أنَّ هذا الشيءَ معروفٌ لديك ، ويدعوك إلى تذكُّر صفاتِه ؛ كأنَّه قالَ :
( أرأيت هذا الشيءَ المعروفَ بعظمتِه ، وبحملِه الأثقالَ ، والبشرَ ، فإنَّ الخضِر خرقَه ). وذلك كثيرٌ في مقامات التهويل،
أو التعظيم . وإنما ذلك ليبيِّن عِظم ما فعلَه من خرقِها في عين موسى . وآية ذلك أنه قال بعدُ : لقد جئت شيئًا إمرًا ؛
و( الإمر ) أشدُّ من ( النُّكر ) ؛ ولهذا عرَّف ( السفينة ) ولم يعرِّف ( الغلام ) ؛ إذْ كان خرْق السفينة سببًا لهلاكِ نفوسٍ كثيرةٍ ،
وقتلُ الغلام إنما هو هلاكُ نفسٍ واحدةٍ . هذا مع كونِ أصحابِ السفينة محسنينَ بحملِهم فيها بغير أجرٍ كما قيلََ
وكونِهم مساكينَ أيضًا كما ذكرَ الله تعالى بعدُ .
وزعمَ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أنَّ لامَ ( السفينة ) للعهد الذهنيِّ [ التحرير والتنوير 6 / 375 ]،
ومثَّل لها بـ «وأخاف أن يَّأكله الذئب»، وذكرَ في هذه الآية الأخيرة آيةِ يوسفَ أنَّها لتعريف الجنسِ [ السابق 5 / 231 ]؛
فإن كان يريدُ بلام ( السفينة ) العهدَ الذهنيَّ كما قال في موضعها، فإما أن يَّكون قصدُه بالعهدِ الذهنيِّ أن يكونَ بين المتكلِّم
والمخاطَب عهدٌ فيه ؛ فيكونُ الشيخُ لم يبيِّن في لامِ السفينة كيفَ هذا العهدُ أوَّلاً ، ويكونُ هذا المعنى ثانيًا
غيرَ صالحٍ إجراؤُه في آية يوسفَ ، لأنه لا يمكِن أن تحمَل على العهْد ، ويكون قد ناقضَ كلامَه ثالثًا ،
لأنَّ لامَ الجنس أو الحقيقة غير لامِ العهدِ . وإن كان قصدُه بالعهد الذهنيِّ أن يكونَ المتكلِّم يريدُ بهِ فردًا مبهمً
من أفراد الحقيقة من حيث عهدُه إيَّاه في ذهنِه ، فهذا أوَّلاً معنًى لا يصِحّ ، لأنَّه حين إذٍ ليس معرفةً حقيقةً ، ولا مجازًا ،
وثانيًا لو قدَّرنا أنَّه معرفةٌ في ذهنِ المتكلِّم ، فليس بمعرفةٍ عند المخاطبِ ؛ والتعريفُ إنما هو للمخاطبِ ، لا للمتكلِّم ،
كما أنك لا تأتي إلى رجلٍ خالي الذهن ، وتقول له : اشتريتُ الكتاب ، وقرأتُه ، إذا كان لا يدري أيُّ كتابٍ هذا الكتاب .
ولا ينفعُك أن يكون معروفًا عندكَ إذا كانَ مجهولاً عندَه . ومثل هذا الضميرُ ؛ فإنَّك لا تقول لخالي الذهنِ أيضًا :
( جاء إليَّ ، فأكرمته ) إذا كان لا يعرفُ هذا الذي أضمرتَ عنه . وثالثًا يكون ناقض كلامَه السابقَ ؛
إذ جعلَ لام ( الذئب ) للجنس ؛ والجنسُ كما ذكرتُ غيرُ العهدِ . ويكون رابعًا غيرَ مزيلٍ للإشكالِ ،
ولا كاشفٍ عن وجه البلاغةِ ؛ إذ لِمَ لمْ يُعرَّف ( الغلام ) أيضًا ، و ( القرية ) بهذا القصد ؟
وإن كان يريدُ بلام ( السفينة ) الجنسَ ، فهو أولاً لم يبيِّن وجه البلاغة فيهِ ، ولا علةَ التفرقة بينه وبين ( الغلام ) ،
و ( القرية ) ، وسمَّاه بغير اسمِه ثانيًا ، ولا يصِحُّ ثالثًا أن يسمَّى تعريفًا للجنس ، لأنَّ المعرَّف إنما هو فرْد من أفرادِه .
وزعمَ الدكتور فاضل السامرائيُّ أن سبب تعريف ( السفينة ) أنَّه جاءت سفينةٌ مارّةٌ ، فناداها الخضرُ ، وموسى ،
فعرفوا الخضرَ ، فحملوهما بدون أجر [ لمسات بيانية في نصوص من التنزيل 41 ] . أما الغلام فإنهما لقياه في طريقهم ،
وليس غلامًا محددًا معروفًا . والردُّ على هذا هو ما ذكرنا آنفًا من أن مقتضى التعريفِ أن يَّكون معروفًا للمخاطبِ ،
لا للمتكلِّم .
وأمَّا بيتا امرئ القيس ، فأولهما قولُه :
مِسحٍّ إذا ما السابحات على الونَى *** أثرن الغبارَ بالكَديد المركَّلِ
وهذه هي الرِّواية الحُسنى ؛ فقد أراد أن يصِفَ سرعةَ جريِ فرسِهِ ، وأنَّه إذا كان بينَ الجِيادِ السابحاتِ ،
وقد بلغَ منهنَّ الإعياء مبلغَه ، وجعلن يُثرن الغبارَ لسرعةِ جريهنَّ ، وكرمِهنَّ ، وجدتَّ فرسَه ينصبُّ في جريه انصبابًا ،
ولا يقصِّر عنهنَّ . وكانت ( الغبار ) بالتعريفِ أحسنَ ، وأبلغَ ، لأن هذا موضِع تهويلٍ ، وتوكيدٍ ؛
كأنَّه يريدُ أن يردَّك إلى تذكُّره بحقيقتِه ؛ فكأنه يقول : إنهنَّ يُثِرن الغبارَ المعروفَ من غيرِ تجوُّزٍ .
وهذا أبلغُ في الدّلالة على سرعة جريِهنَّ ، ثم الدلالة على سرعة جريِ فرسِهِ .
وأما الآخَر ، فقولُه :
فعنَّ لنا سِربٌ كأنَّ نِعاجَه *** عذارى دوار في ملاءٍ مذيَّلِ
وهذه هي الرِّواية الحُسنَى ، وذلك أن الشاعرَ أرادَ أن يصفَ قطيعَ البقرِ الذي صادفه في صيدِه ؛
فشبَّهَه بالعذارى إذا لبِسنَ ملاءً ؛ وهو ضربٌ من اللِّباس يُلتحَف بهِ ، وكان هذا المُلاء مذيَّلاً ؛ أي سابغًا ،
في حالِ طوافهنَّ حولَ ( دَوَار ) ؛ وهو صنم من أصنامهم . وذلك أنَّ البقرَ تكون بيضَ الظُّهور ، سود القوائم ؛
وكذلك العذارى في الملاءِ المذيَّل ، وأنَّ البقرَ يلوذ بعضها ببعضٍ ؛وكذلكَ العذارى حولَ الصنمِ.
وإنما كان التنكير هنا أحسنَ ، لأنَّ المَقام ليس مَقام تعظيمٍ أو نحوِه ؛ وإنما هو وصفٌ مجرَّد لا مبالغةَ فيه ،
وليس ذِكرُ ( المُلاء ) على العذارى بالذي يدعو إلى العجبِ ، وليس تعريفُه بالذي يخدُم غرضَ الشّاعر ،
ومقاصِده في شعرِه . والبلاغة ليست كلُّها في المبالغة ، أو التهويلِ ؛ وإنما البلاغة أن تضعَ كلَّ شيءٍ موضعَه ،
وتخاطبَ كلَّ امرئٍ بما يعقلُه .
المصدر abdelbasit.net
amina- عضو مبتدئ
- العمر : 33
المشاركات : 35
نقاط : 71
السٌّمعَة : 2
maghluoth_love- مشرف المنتديات الإسلامية
- قــائمة الأوسمـــــــــة :
الجنس :
البلد :
العمر : 30
المشاركات : 335
نقاط : 632
السٌّمعَة : 44
رد: لِمَ عُرِّفت (السفينة) في سورة الكهف ، ونُكِّر (الغلام) ، و(القرية) ؟
بارك الله فيك اختي الكريمة واصلي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى